يرتبط تاريخ كل بلد من البلدان بجملة من المعالم التاريخية البارزة التي تقف شامخة أبدا، عنوانا لتأصله وتميزه عن باقي الأقطار والدول، وفي تونس يقف جامع الزيتونة المعمور منذ أكثر من 1300 سنة شاهدا على تجذر هذا البلد في إسلامه ورمزا لتعلق أهله بدينهم الحنيف، إضافة إلى كونه منارة علم وتعليم أشعت ومازالت تشع على محيطها القريب والبعيد، وذلك من خلال جامعة الزيتونة التي نشأت بين جدران هذا المسجد العظيم وتحولت اليوم إلى مؤسسة جامعية عصرية تجمع، في وفاق تام، بين الأصالة والحداثة.
وجامع الزيتونة هو ثاني الجوامع التي أقيمت بإفريقية بعد جامع عقبة بن نافع بالقيروان. وينسب أمر تشييده عام 116 هـ إلى عبيد الله بن الحبحاب والي هشام بن عبدالملك الأموي على إفريقية، كما ينسب إلى حسّان بن النعمان فاتح تونس وقرطاجنة فيكون أمر بنائه لأول مرة سنة 79 هـ ، وهذا هو الأرجح حسب أغلب المؤرخين لأنه لا يحتمل أن تكون مدينة تونس قد بقيت بدون جامع بين فتحها وبين سنة 116هـ، وبناء على هذا فإن عبيد الله بن الحبحاب يكون قد أتم فقط عمارة الجامع وزاد في ضخامته.
لقد اختلفت الروايات حول تحديد من قام ببناء هذا الجامع الذي بات ذكر تونس مقترنا به، ومكن أفريقية من سبق تأسيس أول جامعة علمية إسلامية. فالبكري في كتابه "المسالك والممالك" وابن خلدون في كتابه " العبر" وكذلك السرّاج صاحب "الحلل السندسيّة في تاريخ البلاد التونسيّة" وحسن حسني عبد الوهاب في كتابه "خلاصة تاريخ تونس" يرون أن باني الجامع هو عبيد الله ابن الحبحاب سنة " 731 م".
تاريخ بناء الجامع
اختلف المؤرخون أيضا في تحديد سنة بناء الجامع، فمنهم من قال إن ذلك كان سنة (114 هـ) إلا أن البعض وبالرّجوع إلى تاريخ دخول ابن الحبحاب إلى أفريقية واليا عليها (116 ـ 123 هـ/736 ـ 742م) رجّح أن يكون تاريخ بناء جامع الزيتونة هو سنة (116 هـ) وقد رجح ابن أبي الضياف في كتابه "الإتحاف" هذا الرأي الذي تؤكده جلّ المؤلفات المشرقية منها كتاب "الكامل" لابن الأثير. لكن الثابت والأكيد أن أمراء الدولة الاغلبية في القرن الثالث الهجري قد قاموا بتوسيعه وتحسين هندسته وزخرفته ومرافقه.
منارة علم ودين
إن ما تميز به الجامع من طرق تدريس ومناهج متطورة تشمل اللغة والعلوم الدينية والفقه جعل منه بالفعل جامعة بالمعنى العلمي للكلمة، وهو بذلك يكون قد سبق الأزهر بمصر من حيث أهمية اضطلاعه بنشر العلوم الدينية والمحافظة على مكونات الهوية العربية الإسلامية لا سيما في فترات الانحطاط التي مر بها العالم العربي والإسلامي.
لقد أشع جامع الزيتونة المعمور بنور علمه على مختلف أنحاء العالم الإسلامي، فكان عبر الأحقاب التاريخية منارة علم ودين أضاءت على العالم العربي شرقا وعلى المغرب العربي غربا وعلى إفريقيا جنوبا وعلى الأندلس شمالا.